محمد غريغوريوس.. البطريرك والإمام
لا شك ان تاريخ العرب مسلمين ومسيحيين حافل بالوحدة فيما بينهم وأن هناك صور لا تمحى من الذاكرة غير أن تدمير البشر والحجر، لا يمكنه أن يزيل من الذاكرة نقاوة ووجدان من زرعوا المحبة ونشروا الخير وعاشوا من أجل غيرهم.
محمد غريغوريوس هو أحد رجالات العرب الذين آمنو بأن الوطن يجمع كل ابنائه حوله لايفرق بينهم ولا يميز بين الوانهم ومذاهبهم، بل هو وطن واحد وأرض واحده وجذور ممتده من أصل واحد لكل الأبناء.
ولد انطوي ابن جرجس ابن تغطرس الحداد فى قرية (عبية) إحد قرى الغرب فى جبل لبنان عام ١٨٥٩م.
رجل عرف الوطن بقرآنه وبإنجيله منح محبته للجميع وقدم الخير ومد يده للجميع، كان يبكى فى خشوع عندما تتلى عليه سورة مريم من القرآن الكريم، صان تراب الوطن ودافع عنه وعن ابنائه وصار مثالا يحتذى به.
لبس الإسكيم الرهبانى ودعى غريغوريوس ١٨٧٧ وتشمس فى ١٧٧٩ وكهن فى ١٨٩٠ وتسقف على طرابلس فى ذات العام حتى صار بطريرك عام ١٩٠٦.
بدت عليه فى طفولته علامات الذكاءكان عريض الجبهه حاد الذهن سريع الفهم وقد وصف فيما بعد بأنه كان معتدل القامة صبوح الوجه اشقر الشعر بهى الطلعة ناعم اليدين جاحظ العينين باسم الثغر وديعاطاهر القلب.
الحقه والداه بمدرسة عبية الامريكية حيث أتم الدراسة الإبتدائية عام ١٨٧٢م، ونتقل بعدها الى بيروت لينتهى من دراسته الثانويةوعندما لاحظه السيد غفرائيل شاتيلا مطران بيروت ولبنان (١٨٧٠-١٩٠١) الحقه بمدرسته الإكليريكية.
اختير اسقفا على طرابلس وهو فى الحادية والأربعين من عمره عقب وفاة السيد صفرونيوس (النجار)، وقد سار بالأبرشية الى ميناء التآخي والتصالح والتسامح بعدما طالت فيها المنازعات.
إهتم فى هذه المرحلة التى دامت ست عشرة سنة من حياته بتأسيس الأخوية الأرثوذكسية الطرابلسية للعناية بالمحتاجين وأنشأ المكتبة الكبيره بدار المطرانية كما اعتنى بفتح المدارس وتجديدها كتجديد المدرسة بكفتين بعد توقفها.
كتب عنه العلامة محمد كرد على فى مذكراته: عرفت صديقى البطريرك غريغوريوس حداد قبيل الحرب العالمية الأولى استنهض البطريرك الهمم لمساعدة الجائعين والبائسين وباع أملاك وأوقاف الطائفة الكثيرة فى سوريا ولبنان ليشترى الطعام للمحتاجين بغض النظر عن دينهم أو عرقهم او طائفتهم، وذات يوم أطل من شرفة غرفته المطلة على ساحة البطريركية يراقب الشماس وهو يوزع الخبز على كل طالبيه فرد الشماس أمرأه مسلمة متعللا بأن القمح قد نفذ من مخازن البطريركية، فنزل إليه ونادى المرأة المسلمة قائلا: أعطنى رغيف خبز فلما تناوله أخد يقلبه بين يديه وقال له؛ أنا لم أقرأ انه كتب على رغيف الخبز مصنوع من أجل المسيحى الأرثوذكسي؟.. يابنى ادفع الصدقة لكل من يطلبها فالخلق كلهم عيال الله وناول المرأة حصتها.
وعندما سمع أحد الإكريليكيين المرافقين له يسأل أحد المحتاجين ما طائفتك؟ سارع البطريرك قائلا :هل تمنع عنه الصدقة لكونه من طائفة غير طائفتك؟! وأردف: ألا يكفيه ذلا أنه مد يده ليستعطى لتذله بسؤالك عن عقيدته.
فى الحرب العالمية الأولى (١٩١٤-١٩١٨) وقعت مجاعة "سفر برلك" الشهيرة ففتحت البطريركية الارثوذكسية بدمشق أبوابها لإطعام الجياع بغض النظر عن الدين والمذهب، وحتى الوافدين منهم من بيروت ويقال انه فتح ابواب البطريركية للجميع أيام الحرب حتى إستدان بأموال طائلة حتى يفى بحاجاتهم من الطعام.
ومما يذكر فى هذا الشأن أنه كان يمتلك صليبا ماسيا أهداه اياه قيصر روسيا نقولا الثانى ولما نفذت أموال البطريركية اضطر الى رهن الصليب الماسى لدى يهودى من دمشق بألف ليرة عثمانية فك رهنه أحد اغنياء المسلمين حينما لاحظ الأمر وأعاده للبطريرك الا أن البطريرك أخذه وباعه من جديد دون أن يدرى أحد ليكمل ما بدأه من معروف غير أنه وضع آخر زجاجى مكانه حتى لا يلاحظه أحد وقد عرف ذلك اهل الدار البطريركية كما ذكر عن غبطته.
فى ربيع ١٩٢٠ إثر مؤتمر دمشق الذى نادى بإستقلال سوريا وبايع الوجهاء والاعيان فيه فيصل ملكا عليها كان البطريرك فى طليعة المبايعين ولما رجحت كفة الفرنسيين واضطر فيصل الى ان يبرح دمشق فى نفس العام كان غريغوريوس الوحيد الذى خرج لوداعه حفظا للعهد وثباتا على العقد، قال له:إن هذه اليد التى بايعتك ستبقى على العهد الى الأبد فما كان من الملك فيصل الا أن بكى مقبلا يداه.
كان البطريرك غريغوريوس يشمل كهنته لاسيما الفقراء منهم بعطف أبوى كبير إذ كان المحتاجون منهم يأتون اليه بجبب رثه فيعطيهم أجود ماعنده ويبقى لنفسه الممزق منها ليرقعه بنفسه وكان ايضا يصلح نعليه بيديه.
كان يطوف على أفراد حاشيته سائلا منهم الصفح ممابدر منه وهو الرقيق القلب والعذب اللسان حتى لايدع الشمس تغيب وفى قلب احدهم منه عضب.
وحينما ذهبت نساء مسلمات يشكين من الجوع قائلات: نريد خبرا يا أبا المساكين نريد طعاما لأطفالنا الجائعين فعاد أدراجه الى البطريركية وأمر أن توزع عليهن المؤن من البطريركية ثم أغلق على نفسه راكعا للصلاة من الرابعة عصرا حتى الحادية عشر ليلا ولما أحضر اليه طباخ البطريركية الطعام أجاب: لايليق بى أن آكل وغيرى يتضور جوعا.
وفى موقف آخر كان قد تأخر عن وجبة الطعام فحفظ له الطباخ حصة مميزة فلاحظ البطريرك أنه أشهى مما قدم لسواه فبادر قائلا: بل أعطونى مما قدمتم لإخوتى.
ويذكر ايضا أنه حينما تفشى وباء الكوليرا شرع يزور المرضى ويعزى المنكوبين ولم يترك المدينة ولما الح اصدقائه عليه بالمغادرة أجاب: ليست حياتى أفضل من حياة الذين لايستطيعون الفرار من الوباء.
فى عام ١٩٢٥ م ألم بحداد ضعف ببصره حتى توفاه الله عام ١٩٢٨م.
وجرى تشييع جثمانه من بيروت لدمشق وعندما وصل جثمانه الى ساحة الشهداء فى بيروت شرع أحد التجار المسلمين يرش الملبس على الطريق أمام الجثمان مرددا:إن هذا القديس قد أعالنى وعائلتى طيلة الحرب العالمية الأولى.
غير أن الحكومة السورية استقبلت جثمانه على الحدود بإطلاق مئة طلقة من المدفعية تحية له فيما صرخت الجماهير مات ابو الفقراءبطريرك النصارى وإمام المسلميننزلت بالعرب الكارثة الكبرى.
غير أنه كان يطوف مع شماسه وقواسه يجمع المطروحين فى الأزقه الى الدار البطريركية والمدرسة التى تقابلها ويعنى بإعالتهم.
شارك فى جنازته ٥٠ الف مسلم دمشقى يتقدمهم عدد كبير من شيوخ وأئمة المسلمين حتى قيل أنهم أرادو الصلاة عليه فى الجامع الأموى الكبير وقد أسموه محمد ولد غنطوس ابن جرجس الحداد.
فما أحوجنا الى تغيير البوصلة لإتجاهها الصحيح الذى لا خلاف فيه فأعداء الأمس البعيد هم انفسهم أعداء الماضى القريب والحاضر المستمر؟
وأن محمد غريغوريوس البطريرك والإمام مثالا للقلب الطاهر وهو واحد فقط من المئات والآلاف ممن اناروا حياتنا وأثروا فيها ومهمدوا طريقا ممتدا الى أبد الروح الى مالا نهاية.